وضع داكن
08-12-2025
Logo
أسماء الله الحسنى - إصدار 2008 - الدرس : 030 ب - اسم الله المسعر 2
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
 

حقائق مستنبطة من اسم الله المسعِّر:


أيها الإخوة الكرام؛ لا زلنا في اسم المسعِّر، وقد بينت لكم في لقاء سابق أن أوسع نشاط يمارسه الإنسان في حياته الدنيا البيع والشراء، ولابد من معرفة أحكام البيع والشراء، وإن أخطر ما في البيع والشراء هو السعر، فإذا تدنت الأسعار عمّ الرخاء، وإذا غلا السعر هلك الناس.  

1 – ورودُ اسم المسعِّر في السنة النبوية الصحيحة:

لذلك كان عليه الصلاة والسلام يُسمّي ربه المُسعِّر، هذا الاسم كما قلت في لقاء سابق لم يرِد في القرآن الكريم، ولكن ورد في السنة المطهرة حينما قال الله عز وجل:

(( عَنْ أَنَسٍ ابن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ. ))

[ صحيح الترمذي ]

ثم بينت لكم أيضاً أن المواد إذا كثُرت رخُصت الأسعار، فإذا قلَّت ارتفع السعر، مَن هو المسعِّر حقيقة؟ هو الله سبحانه وتعالى، فإذا زادت الكميات التي تنتجها الأرض رخصت الأسعار، وهبطت، وعمّ الرخاء.  

2 – التسعير القسري قد يمنع الخير:

لذلك على الحقيقة الله جلّ جلاله هو المُسعِّر، أما أن يكون الناس في رخاء، وفي بحبوحة، والمواد موفورة، والناس في غنى، وتأتي أنت أيها الولي ولي الأمر تضع أسعاراً هابطة فتعيق الناس عن أرباحهم هذا ظلم، من هنا تبين أن النبي عليه الصلاة والسلام رفض أن يُسعِّر، لما قيل له: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ)) .
مرة ثانية إذا كان الناس في رخاء، وفي بحبوحة، والمواد متوافرة، والناس في غنى، فالتسعير القسري قد يمنع الخير عن معظم الناس، فالنبي عليه الصلاة والسلام أبى أن يُسَعّر، لأنه بيّن أن التسعير أحياناً يقع في حالة من الظلم لا يرضاها النبي لنفسه.  

3 – جواز التسعير في حالات الجشع وغلاء الأسعار تحقيقًا للمصلحة العامة:

لكن هناك حالة ثانية أقرها الفقهاء، حينما يكون البائع جشعاً، ويريد أن يربح أرباحاً طائلة، ويحتكر المواد، ويقنن على الناس بغية ارتفاع الأسعار، ومضاعفة الأرباح، حينئذٍ يتدخل ولي الأمر لرحمة الناس، ولتوفير المواد فيُسعّر، إذاً يوجد عندنا تسعير ظالم، يوجد عندنا تسعير يُعدّ تدبيراً حكيماً من قِبل ولي الأمر.
فدائماً الشريعة كما قال بعض العلماء: عدل كلها، رحمة كلها، حكمة كلها، مصلحة كلها، فأية قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة، ومن العدل إلى الجور، ومن الحكمة إلى خلافها فليست من الشريعة، ولو أُدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل.
فالحقيقة الأولى في هذا اللقاء أن التسعير إذا كان مؤدياً إلى ظلم عميم فالنبي حرمه، أما إذا تدخّل ولي الأمر لإنقاذ الفقراء من جشع الأغنياء، ومن رفع الأسعار رفعاً مفتعلاً عن طريق الاحتكار، أو منع بيع البضاعة، أو الإيهام، أو التدليس، عندئذٍ أقرّ الفقهاء لولي الأمر في حالات يقع فيها ظلم شديد أن يُسعِّر.
إذاً التسعير الذي يؤدي إلى الظلم حرمه النبي عليه الصلاة والسلام، أما التدبير الحكيم الذي يؤدي إلى إيصال المواد إلى المستهلك الفقير بغية أن تقوم حياته على شكل معقول أقره الفقهاء استثناء من هذا الحديث. 

4 – معنى المسعِّر:

على كلٍّ المُسعِّر اسم فاعل من فعل رباعي، كلكم يعلم الفعل الثلاثي وزن اسم فاعله فاعل، كتب كاتب، أما الفعل الرباعي سعّر يُسعِّر مُسعِّر، فالُمسعِّر هو الله عز وجل، وقد بينت كثيراً أن المواسم الزراعية تتفاوت من عام لآخر، أحياناً تتضاعف المواد أضعافاً كثيرة، عندئذٍ ترخص الأسعار، إذاً التسعير أن يكون فعلاً إلهياً تكوينياً، أو أن يكون فعلاً بشرياً تنظيمياً، من أجل أن يكون فعلاً إلهياً تكوينياً قضية الإنتاج والخصب والغلات، أما أن يكون فعلاً بشرياً تنظيماً بيد ولي أمر المسلمين، وله ولولي الأمر أن يُسِعِّر بعض المواد الأساسية.
لكن من معاني هذا الفعل سعّر يُسعِّر تسعيراً وتسعيرة، أي وضع سعراً محدداً لهذه السلعة، لكن في قوله تعالى: سعّر النار؛ أي أشعلها، الآية الكريمة:

﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)﴾

[ سورة التكوير ]

والمُسعِّر هو سبحانه وتعالى يزيد الشيء، ويرفع من قيمته، أو من تأثيره، أو من مكانته، أو يخفض من قيمته أو تأثيره أو مكانته، يقول الله عز وجل: 

﴿ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)﴾

[ سورة الفتح ]

نحن في معاني كلمة المُسعِّر والسعير: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً﴾ .
 

اسم المُسعِّر يدل على ذات الله وعلى صفة التسعير:


لذلك علماء المسلمين قاطبة رأوا أن الإيمان باليوم الآخر هو إيمان إخباري، أن النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديثه، وأن القرآن في أخباره أخبرنا عن يوم آخر تُسوَّى فيه الحسابات، ولكن الحقيقة التي ينبغي أن تكون واضحة أن بعض العلماء وعلى رأسهم ابن القيم رحمه الله تعالى يرى أن الإيمان باليوم الآخر إيمان عقلي، لأنه لا يُعقَل أن يكون في الأرض غني وفقير، وقوي وضعيف، وظالم ومظلوم، وتنتهي الحياة هكذا من دون تسوية حسابات، إذاً لابد من يوم تُسوَّى فيه الحسابات، جاءت الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً﴾ اسم المُسعِّر يدل على ذات الله، وعلى صفة التسعير، إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، إلى أن قال:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: إنَّ اللهَ تبارك وتعالى إذا كان يومُ القيامةِ، ينزلُ إلى العبادِ، ليقضيَ بينهم، وكلُّ أمةٍ جاثيةٌ، فأولُ من يُدعى به رجلٌ جمع القرآنَ، ورجلٌ قُتِلَ في سبيلِ اللهِ، ورجلٌ كثيرُ المالِ، فيقولُ اللَّهُ للقارئِ: ألم أعلِّمْكَ ما أنزلتُ علَى رسولي؟ قالَ: بلى يا ربِّ، قالَ: فماذا عملتَ فيما عُلِّمتَ؟ قالَ: كنتُ أقومُ بِه آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ، فيقولُ اللَّهُ لَه: كذَبتَ، وتقولُ الملائِكةُ كذَبتَ، ويقولُ له اللَّهُ: بل أردتَ أن يقالَ: فلانٌ قارئٌ، فقد قيلَ ذلكَ، ويؤتى بالذي قُتِل في سبيلِ اللهِ، فيقولُ اللهُ له: في ماذا قُتلتَ؟ فيقولُ: أيْ ربِّ! أُمرتُ بالجهادِ في سبيلِك، فقاتلتُ حتى قُتلتُ، فيقولُ اللهُ له: كذبتَ، وتقولُ له الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ له: بل أردتَ أن يُقالَ: فلان جريءٌ، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسولُ اللهِ على رُكبتي فقال: يا أبا هريرةَ أولئك الثلاثةُ أولُ خلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهم النارُ يومَ القيامةِ. ))

[ صحيح الترمذي: صحيح الترغيب: صحيح  ]

أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة هؤلاء الذين استغلوا، وظلموا، وأخذوا ما ليس لهم.  

5 – الدعاء باسم المسعِّر:

أيضاً أيها الإخوة؛ يمكن أن ندعو باسم المُسعِّر لأن الله عز وجل يقول: 

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾

[ سورة الأعراف ]

وحينما قال الصحابة الكرام:

(( عن أبي هريرة: أنَّ رجلاً جاء إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال يا رسولَ اللهِ سَعِّرْ لنا فقال بَلْ أدعو اللهَ ثم جاءَهُ رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ سَعِّرْ لنا؟ فقال: بلِ اللهُ يرفَعُ ويخفِضُ وإني لأرجو أنْ ألْقَى اللهَ وليستْ لأحدٍ عندي مظْلَمَةٌ. ))

[  الهيثمي: مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح ]

قال آخر: ((سَعِّرْ لنا، فقال: بلْ أدْعُو عز وجل)) إذا يتضح أن التسعير فعل كوني من قِبل الله عز وجل متعلق بالغلات، والإنتاج، والتسعير كفعل بشري يتعلق بولي الأمر حينما يضع حداً لجشع التجار، وكان عليه الصلاة والسلام، كان الرجل إذا أسلم علمه النبي الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات:

(( عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي. ))

[ صحيح مسلم ]

ومن أدعية النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً، ولأدعية النبي عليه الصلاة والسلام معان دقيقة جداً، من أدعيته: اللهم أنا بك وإليك، أنا بك، قائم بك، وأنت قصدي يا رب، أنا بك وإليك، اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً، ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ فكل دعاء يقول: اللهم ارزقني هو دعاء باسم المُسعِّر، اللهم ارزقني، ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ ، ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي)) .
 

نعمة الهداية النعمة الأولى في حياة الإنسان:


بينت أيضاً أن الإنسان تُعدّ النعمة الأولى في حياته نعمة الهداية، وقد قالوا: تمام النعمة الهدى، والنعمة الثانية الصحة، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يُكثِر من دعائه الشريف: اللهم ارزقنا العفو والعافية والمُعَافَاةَ الدائمة فِي الدين والدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، والنبي عليه الصلاة والسلام أيضاً كان يدعو فيقول: اللهم ما رزقتني مما أحبّ-دققوا في هذا المعنى-فاجعله عوناً لي فيما تحب، ما رزقتني مما أحبّ فاجعله عوناً لي فيما تحب، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي ما أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ، أي أنت في كل الحالات الشيء الذي تحبه إذا أكرمك الله به ليكن في سبيل الله، والامتحان الذي أُبينه لكم دائماً أنك ممتحن فيما أعطاك الله، وممتحن فيما زوى عنك، أي شيء منحك الله إياه أنت ممتحن به، لأن الدنيا في الأصل دار ابتلاء، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.
 

طريقة انتقال الرزق إليك باختيارك أما هو فلك:


إذاً أنت حينما تقول: اللهم ارزقني، دعوت الله عز وجل المُسعّر بمعنى هذا الاسم وهو الرزق، والإنسان حريص على صحته، وحريص على رزقه، والله عز وجل هو الرزاق، وكنت أقول دائماً: تفاحة على غصن في شجرة في بستان، هذه لك، ولكن طريقة انتقالها إليك باختيارك، يمكن أن تأكلها ضيافة، ويمكن أن تأكلها هدية، ويمكن أن تأكلها شراء، تشتريها، أو تُهدى إليك، أو أن تأكلها ضيافة، ويمكن لا سمح الله ولا قدر أن يأكلها بعض الناس سرقة، ويمكن أن يأكلها بعض الناس تسولاً، تسول، سرقة، شراء، ضيافة، هكذا.
إذاً طريقة انتقال الرزق إليك باختيارك، أما هو فلك، لذلك

(( عن حذيفة بن اليمان: هَلُمُّوا إِليَّ. فأَقبَلُوا إليه فجَلَسُوا، فقال: هذا رسولُ ربِّ العالمِينَ؛ جِبريلُ نَفَثَ في رُوعِي إنَّه لا تَموتُ نفسٌ حتى تسْتكمِلَ رِزْقَهَا وإنْ أبطأَ عليهَا، فاتَّقُوا اللهَ؛ وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يحْمِلَنَّكم اسْتِبْطاءُ الرِّزقِ أن تَأخذُوهُ بِمعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ لا يُنالُ ما عِندَه إلا بِطاعتِه . ))

[ صحيح الترغيب: خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح ]

وفي زيادة: ((واستجملوا مهنكم)) أي اختر مهنة شريفة، الرزق هو هُو.
 

الفرق بين الكسب والرزق:


 دائماً-ولا زلنا في موضوع الرزق-فرّق العلماء بين الكسب وبين الرزق، الرزق ما انتفعت به فقط، أي الثوب الذي تلبسه، والطعام الذي تأكله، والسرير الذي تنام عليه، والثياب التي تلبسها هي رزقك، أما حجمك المالي فهو كسبك، الكسب مال جمّعته ولم تنتفع به، بل سُئلت عنه يوم القيامة، من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟ فالفرق واضح جداً بين الرزق وبين الكسب، فالإنسان الذي ينتفع به فقط هو رزقه، والذي جمّعه هو كسبه، الذي جمّعه محاسب عليه، من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ من هنا ورد في بعض الآثار أن روح الميت ترفرف فوق النعش، تقول: يا أهلي يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحرُم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة عليّ.
إذاً أيها الإخوة؛ قضية المال قضية خطيرة، تُسأل عن المال مرتين: مرة من أين اكتسبته؟ ومرة فيمَ أنفقته؟ 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[  سورة الحجر  ]

وقد قال بعض العلماء: ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام. طبعاً لا زلنا في الدعاء باسم المُسعِّر، باسمه نصاً، أو بمعناه الواسع.
أيها الإخوة الكرام؛ أنت حينما يصح دخلك يستقيم الطريق إلى الله عز وجل، لأن تسعة أعشار المعاصي في كسب الأموال وفي العلاقة بالنساء، لو جمعنا الأحكام الفقهية لوجدنا أن تسعة أعشارها متعلقة في موضوعين؛ موضوع كسب المال، وموضوع العلاقة بالنساء، لذلك أحكام الشريعة واسعة جداً في هذين الموضوعين، إذاً الدعاء بالرزق مشروع، لكن اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً. 
 

الحلال صعب والحرام سهل:


لابد من تنويه إلى قضية دقيقة وهي أن الشيء اللطيف والحكيم أن الرزق الحلال صعب، وأن الرزق الحرام سهل، لو عُكِست الآية، لو أن الكسب الحلال سهل جداً، وأن الكسب الحرام صعب جداً لأقبل جميع الناس على الحلال، لا طاعة لله، ولا حباً له، ولا ابتغاء مرضاته، ولكن طلباً للأسهل، لذلك شاءت حكمة الله، أي أحياناً يعمل إنسان عاماً بأكمله، يشتري بضاعة، يعرضها، يوزعها، يبيعها، بعضها نقداً، بعضها ديناً، يجمع ثمنها، يدفع مصاريفها، يُعيّن موظفين، بالنهاية يربح أو لا يربح، أما إنسان أحياناً يغض بصره عن مخالفة تؤذي المسلمين، يأخذ ملايين مملينة، فالحرام سهل، بغض بصر، أو بتواطؤ، أو بإغراء، أما الحلال صعب، لذلك البطولة أن تكسب المال الحلال، ولو كان صعباً، وقد ورد في بعض الآثار: من بات كالاً مِن طلب الحلال بات مغفوراً له، لا تتضجر من الكسب الحلال فهو صعب، أي إنسانة تعمل طوال النهار تأخذ خمسمئة ليرة، وإنسانة أخرى تأخذها في دقائق، فالكسب الحرام سهل، والحلال صعب، هذه حكمة بالغة في الدنيا، فهذا الذي يبحث عن الحلال مؤمن ورب الكعبة، هذا الذي يقول: معاذ الله، الله الغني، و:

(( عن سالم عن أبيه مرفوعاً: ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه. ))

[ رواه أبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا وقال غريب، لكن له شواهد منها ما رواه التيمي في ترغيبه عن أبي ابن كعب مرفوعا بلفظ ما ترك عبد شيئا لا يدعه إلا لله إلا أتاه الله ما هو خير له منه ]

والدنيا مفعمة بالامتحانات، إنسان قد يُعرض عليه عمل بدخل كبير، لكن هذا العمل لا يرضي الله، قد يُبنى على مضرة الآخرين، قد يُبنى على أخذ أموالهم بالباطل، فأي عمل قادك إلى معصية الله هو خسارة ما تعدلها خسارة، وأي عمل مهما كان دخله قليلاً إذا كان في مرضاة الله كان ربحاً كثيراً، لذلك كان الرجل إذا أسلم علّمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي)) .
 

رَحِمَ اللهُ رجلاً سَمْحاً إذا باع وإذا اشترى:


الآن في كسب الرزق يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: رَحِمَ اللهُ رجلاً سَمْحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقْتَضَى. ))

[ صحيح البخاري ]

هناك تعنت في كسب الرزق، هناك قسوة في كسب الرزق، هناك شدة في كسب الرزق، فالمؤمن من علامات إيمانه السهولة، واليسر، والتسامح في علاقاته المادية، وقد ورد: التَّاجِرُ الأمينُ الصَّدُوقُ مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقين والشُّهداء، تاجر، لذلك ورد في بعض الآثار: إن أطيب الكسب كسب التجار، الذين إذا حدثوا لم يكْذِبوا، وإذا وعدوا لم يُخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يُطروا، وإذا كان لهم لم يُعَسِّروا، وإذا كان عليهم لم يُمطلوا، سبع صفات وردت في بعض الآثار تجعل أطيب الكسب كسب التجار، لذلك التَّاجِرُ الصَّدُوقُ مع النَّبيِّينَ يوم القيامة، لأن التاجر يحقق لك أكبر حاجة بحياتك موادك الأولية، طعامك، شرابك، ثيابك، أنت إنسان تحتاج مليون حاجة، فهذا الذي يقدمها لك بنوعية جيدة، وبسعر معتدل هو داعية إلى الله دون أن يشعر، لذلك أكبر قطر إسلامي في العالم إندونيسيا يعد مئتي وخمسين مليونًا فُتِح عن طريق التجار، لا يوجد سلاح، ولا حرب، ولا جيوش، تاجر صدوق أمين، لا تستهن بهذه الحرفة، يمكن أن تلبي حاجات الناس، لذلك الناس أحياناً يدعون من أعماق قلوبهم لتاجر صدوق باعهم سلعة جيدة، سعرها معتدل، وجيدة، وقدمت لهم خدمات كثيرة،

(( النبي عليه الصلاة والسلام فيما روي عنه من حديث أبي ذر قال: عن ابنِ الأحمسِ قال لقيتُ أبا ذرٍّ فقلتُ له: بلغَني أنك تحدِّثُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ ثلاثةً يشنأُهم اللهُ، قال: نعم قد سمعتُه، قال: قلتُ: فمن الذين يشنأُهم اللهُ؟ قال: التاجرُ الحلاَّفُ أو قال: البياَّعُ الحلَّافُ والبخيلُ المنَّانُ والفقيرُ المُختالُ. ))

[ ابن جرير الطبري: مسند علي: خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح ]

يشنأهم الله أي يُبغضهم الله، ورد أحبّ ثلاثاً، وحبي لثلاث أشد، أحبّ الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد، أحبّ الكرماء، وحبي للفقير الكريم أشد، أحبّ المتواضعين، وحبي للغني المتواضع أشد، وأبغض ثلاثاً، وبغضي لثلاث أشد، أبغض العصاة، وبغضي للشيخ العاصي أشد، أبغض المتكبرين، وبغضي للفقير المتكبر أشد، أبغض البخلاء، وبغضي للغني البخيل أشد، لذلك ورد أيضاً أن العدل حسن، لكن في الأمراء أحسن، أي أجمل صفة في الأمير العدل، وأن الورع حسن، لكن في العلماء أحسن، وأن الحياء حسن، لكن في النساء أحسن، وأن السخاء حسن، لكن في الأغنياء أحسن، وأن الصبر حسن، لكن في الفقراء أحسن، وأن التوبة حسن، لكن في الشباب أحسن.
 

الله هو المُسعِّر بفعله التكويني:


إذاً أيها الإخوة؛ الله هو المُسعِّر بفعله التكويني، وولي أمر المسلمين حينما يرى في مصلحة الأمة أن يُسعّر يُسعِّر بتدبيره الفقهي، وأن الإنسان مطلوب منه أن يدعو بهذا الاسم أو بمعنى هذا الاسم حينما يقول: اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً، وأن الكسب شيء، وأن الرزق شيء آخر، الرزق ما انتفعت به، والكسب مال حصّلته ولم تنتفع به، وسوف تحاسب عليه، وأن من أدق الحسابات يوم القيامة حساب المال، من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟
أيها الإخوة الكرام؛ نسأل الله جلّ جلاله أن يرزقنا طيباً، وأن يستعملنا صالحاً.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور